رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل الخامس عشر
أفاقت إيثار من حزنها على صوت أخيها الذي كان يصرخ بإهتياج:
اطلع برا أحسنلك، هي خلاص مش ليك واختارت الأحسن منك
لم يعبأ مالك بصراخه الجهوري، فقد كان شاغله الأكبر هو حبيبته، فنظر لها متفحصاً إياها، وسألها بقوة:
اتكلمي يا إيثار هما أجبروكي عليه؟
صاح عمرو محتجاً:
أجبرناها، إنت متخلف؟! هي وافقت برضاها
تدخل محسن في الحوار قائلاً ببرود:
كلمني أنا يا أخ انت!
سألها مالك بعصبية:.
انتي وافقتي عشانه أغنى مني زي ما أخوكي بيقول؟
تسارعت أنفاس إيثار وجفل جسدها من كلماته الصادمة، وتوترت بشدة وهي تحاول الرد عليه:
أنا آآ…
فركت أصابعها بإضطراب جلي، وبدت أكثر شحوباً وهي تحاول انتقاء كلماتها بحذر..
لم يمهلها عمرو الفرصة للرد، فنطق بتهور:
شوف يا ابن الناس، اختى وافقت على راجل ملو هدومه هيقدر يصرف عليها ويعيشها ملكة في بيتها، وده مش عيب.
بينما أضاف محسن قائلاً بنبرة مهينة وهو يرمق مالك بنظرات إحتقارية:
أومال يعني كنت عاوزاها تتخطب لواحد زيك فقري مش لاقي يأكل نفسه!
تابع عمرو قائلاً بسخط:
بالظبط، لاقيت اللي يستاهلها ويقدرها، مش واحد آآ…
لم يصدق مالك ما تفوه به الإثنين، وبدى على وشك الإنفجار فيهما، فقاطعهما قائلاً بنبرة عنيفة:
اللي بيقولوه ده حقيقي؟
ابتلعت ريقها بخوف، فقد كانت هي الأخرى مصدومة، وأجابته بتلعثم:
م، مالك، أنا آآ…
قاطعها محسن قائلاً بجمود:
هو انت شغال في مكتب ((، ))، بإشارة مني لواحد من معارفي أنا ممكن أضيعك وأنسفك!
شهقت إيثار مذعورة من تهديد محسن الصريح لمالك، ونظرت له شزراً..
رد عليه مالك بتحدٍ سافر:
متقدرش
التوى ثغر محسن بإبتسامة خبيثة وهو يقول:
انت مجربتنيش!
اشتعلت نظرات مالك، وأصبحت نبرته أكثر عنفاً وهو يرد قائلاً:
وريني هاتعمل ايه!
شعرت إيثار بأن الجميع على حافة الإنهيار، وان الوضع قد تأزم للغاية، وأن مالك بات مهدداً ليس من قبل أخيها فحسب، بل من محسن أيضاً، ففزع قلبها خوفاً عليه، فهتفت بنبرة مرتعدة وهي ترمق مالك بنظراتها الباكية
مالك، من فضلك، امشي الوقتي
صاح بها مالك بغضب وقد ضاقت نظراته نحوها:
مش هامشي قبل ما تردي عليا!
رأت إيثار الشرر المستطر في نظرات أخيها، وتحفزه للإنقضاض فوراً على مالك، فهتفت متوسلة ببكاء حارق:.
مالك، أرجوك، مش هاينفع، امشي عشان خاطري
أصر قائلاً بعصبية:
أنا عاوز أسمعها منك، انتي وافقتي برضاكي عليه؟
ابتلعت ريقها، وأجابته بصعوبة وبنبرة مرتجفة:
آآ، ايوه
اتسعت حدقتيه بصدمة كبيرة، واكتست تعابير وجهه بالخزي والإنهيار..
لقد طعنته في ظهره طعنة غائرة، لم يتوقعها على الإطلاق..
أنهت بكلمتها المقتضبة حبهما..
لم يتوقع منها هذا الرد المفاجيء والموجز…
حاولت إيثار أن تبرر له، فخرج صوتها مذعوراً وهي تقول:.
بص، أنا هافهمك بعدي، آآآ…
قاطعها بصراخ صارم:
ششش! مش محتاج تقولي مبررات، إنتي فعلاً ماتستهليش إن الواحد يضحي بنفسه عشانك، إنتي أرخص من إني أفكر فيكي، أنا لو ندمت على حاجة عملتها في حياتي فهو إرتباطي بيكي من الأساس، إنتي غلطة مش هاكررها في حياتي
شهقت من كلماته القاسية التي أدمت قلبها فوراً، وإنهمرت عبراتها بغزارة أشد..
حدجها مالك بنظرات أخيرة احتقارية ومهينة، ثم أولاها ظهره، وانصرف مسرعاً، فصرخت بشهقة عميقة:
مالك استنى
حاولت اللحاق به، وأيقافه، ولكن قبض عمرو على ذراعها، ومنعها من التحرك، وكز على أسنانه قائلاً بغلظة:
رايحة فين، اقعدي مع خطيبك!
تلوت بذراعها محاولة تحريره من قبضته الشرسة، ولكنها عجزت عن هذا..
وقف محسن قبالته، وهز رأسه وهو يقول ببرود:
سيبها يا عمرو، برضوه الكلام كان جامد عليها!
رمقت هي الاثنين بنظرات نارية إحتقارية، وصاحت بجنون:
حرام عليكو، حرام!
أرخى عمرو قبضته عنها، فركضت إيثار نحو غرفتها وهي تدفن وجهها في راحتيها..
أسرعت والدتها خلفها، وهي تصيح بها بأسف:
بنتي
أشار رحيم إلى ابنه بجدية وقد عبس وجهه بشدة:
لم المهزلة دي يا عمرو
أجابه قائلاً بإمتعاض:
حاضر يا بابا
تابعت سارة ما يحدث بتشفٍ كبير، وعقدت ساعديها أمام صدرها، وتغنجت بجسدها بدلال وهي تردد لنفسها:.
تستاهلي يا إيثار، ولسه، أنا هاخلي الكل يكرهك!
عاد مالك إلى منزله وهو يجر أذيال الخيبة والحسرة، فلم يكن يتصور أن حبيبته التي تربعت على عرش فؤاده قد تخلت عنه مقابل شخص أكثر مقدرة مادية منه..
كان هائماً على وجهه، الظلام والحزن مسيطران على نظراته..
كانت عمته ميسرة في انتظاره، وشهقت مذعورة حينما رأته على تلك الحالة البائسة..
أسرعت نحوه، وضمته بذراعيه وهي تقول بحنو:
ابني!
لم يمنع مالك نفسه من البكاء، بل إنتحب بأنين مرير وهو يرد عليها:.
باعتني بالرخيص يا عمتو، سابتني
ربتت على ظهره بحنو، وهمست له بعاطفة:
اهدى يا حبيبي
رفع رأسه لينظر نحوها، وتقطع صوته وهو يتابع بنبرة مخذولة:
أنا، أنا كنت فاكر إنها هتستناني
هزت رأسها مستنكرة ما يقوله، وأضافت بحذر:
متظلمهاش
تفاجيء من كلمتها الأخيرة، وردد بلا تصديق:
أظلمها
بررت قائلة بهدوء:
انت مش عارف ممكن يكون أهلها عملوا فيها ايه!
بدى واجماً للحظة، فأكملت برجاء:
اديها فرصة.
تحرك مبتعداً عنها وهو يقول بغضب بعدما تجسد أمام عينيه طيف الخاتم الذي يزين إصبعها:
لأ، هي قالت بنفسها انها وافقت عليه برضاها
فغرت شفتيها قائلة:
ايه؟!
تابع مالك قائلاً بمرارة واضحة:
هي باعتني للي دفع أكتر
همست لنفسها مواسية:
لا حول ولا قوة إلا بالله
صاح مالك بإنفعال شرس:
أنا بأكرهها، بأكرهها على أد حبي ليها!
حضرت روان إلى غرفة أخيها على إثر صوته المتعصب، ووضعت يديها على فمها وهي تقول بخوف:
يا ربي!
أكمل مالك بصعوبة وهو ينتحب:
أنا كنت مستعد أموت نفسي عشان اعملها اللي نفسها فيه، بس طلعت ماتستهلش، خدت كل حاجة مني في لحظة!
أدمعت عيني روان تأثراً به، وهمست بصوت مختنق:
مالك
رفع هو رأسه عالياً بشموخ، وهتف بقساوة:
أنا هنساها، هي أكبر غلطة ونقطة ضعف في حياتي
اقتربت منه عمته، ووضعت يدها على كتفه بحذر، وهمست بتردد:
اهدى يا حبيبي.
وقعت أنظاره على آلته الموسيقية، فتحولت نظراته للشراسة، فهي تذكره بها، وألحانها التي كانت تصدر عنها كانت من أجلها..
بلا تفكير، اندفع كالمجنون نحوها، والتقطها بيده، ثم رفعها عالياً في الهواء، وهوى بها على حافة الفراش عدة مرات ليحطمها إلى أجزاء صغيرة ويحطم معها قلبه الذي استسلم لحبها..
وضعت ميسرة يديها على فمها لتكتم شهقاتها المصدومة
ووقفت روان على عتبة الغرفة تراقب ما يحدث بأعين تفيض من الدمع..
ركضت هي نحو أخيها واحتضنته بقوة، وبكت في صدره متأثرة بما حدث له، بينما تجمد هو في مكانه لوهلة، وهو ينهج بصدره الغاضب، وبصعوبة بالغة سيطر على انفعالاته..
لم تتوقف سارة عن تسميم أفكار عائلة مالك عن نوايا إيثار الخبيثة في الإيقاع بالعريس المناسب من أجل المال..
واستغلت خطبتها السابقة لشريف في مليء رأس العمة ميسرة بهذا اللغو الفارغ..
لم تصدقها الأخيرة، وظنت أنها تحمل في قلبها حقداً نحوها، و لهذا تتفوه عنها بتلك الأكاذيب، ولكن كان مالك على النقيض، فقد رأى بعينيه شريف في مكتب المحاسبات الذي يعمل به حينما كان يقضي بعض المعاملات التجارية، وتفاجيء به يلقي الأقاويل عنها..
لم يصدق أذنيه حينما أبلغه بسعيها هي وعائلتها للبحث عن الزوج الثري الذي ينتشلها من مكانتها، وأنها عاشقة للمال، وتستغل براءتها وطيبتها الزائفة للإيقاع بالمغفلين أمثاله…
ربط مالك ما قاله شريف بذكرى رؤيته له أول مرة، وتذكر خوفها الكبير من رؤيتها إياه بصحبته، فظن أنها كانت خائفة من فضح أمرها أمامه، وإظهار حقارتها وحبها للمال، وليس كما أخبرته..
اعتصر قلبه آلماً على ضعفه وحبه لها، وزاد بغضه لكل ما يتعلق بها..
مرت الأيام على إيثار وكأنها أدهر، لم تشعر بفرحة العروس، ولا ببهجة الخطبة..
وكانت تساق كالمغيبة في كل لقاء يجمعها بمحسن الذي لم تتقبله على الإطلاق، وأصرت على حضور والدتها معها حتى لا ينفرد بها..
أشفقت تحية على ابنتها، وودت لو استطاعت أن تهون عليها الأمر، وتجعلها تتقبل وجود خطيبها الحالي في حياتها خاصة أنها لم تجد فيه ما يعيبه، لكن لم تستطع، فابنتها كانت وفية لعهد الحب…
ظل محسن يحكي بفخر عما ينتوي أن يفعله من أجلها، وهي لم تعبأ بما يقول..
كانت تستثقل لقائهما، وتعد اللحظات لكي تعود إلى منزلها، فترتمي في أحضان وسادتها وتبكي حالها البائس..
لم تفارقها عبراتها، وذبل وجهها بصورة واضحة، وتشكلت الهالات السوداء أسفل عينيها، وبدت أكثر إرهاقاً..
كانت سلواها الوحيدة هي خواطر مالك الشعرية، فكانت ككنزها الثمين الذي يهون عليها ما أدمى قلبها وفطره..
ما زاد من حزنها هو انقطاع ألحان مالك الشجية و التي كانت تخترق ضلوعها لتصل إلى قلبها، فتذوب معها فتعيش في أحلامها الوردية..
لكن بات هذا مستحيلاً في الوقت الحالي، فهي لم تسمع منه لحناً واحداً لليالٍ طوال، وكأنه يعاقبها لخيانتها حبهما الطاهر..
لم تعد إيثار تتحمل البقاء في المنزل أكثر من هذا، وخاصة حينما اقترب ميعاد الزفاف، فزادت خنقتها، وشعورها باليأس..
إحتاجت هي إلى مكان تختلي فيه بنفسها، مكاناً تستعيد فيه ذكرياتها لمرة أخيرة قبل أن تدفنها في صدرها للأبد، فتحججت بحاجتها لشراء بعض اللوازم الخاصة لتحصل على فرصة للذهاب إلى مكانها المفضل..
وبالفعل سمح لها والدها بالذهاب..
سارت إيثار بخطوات ثقيلة نحو تلك البقعة المميزة في ( الكورنيش ) وجلست عليها
تنهدت بعمق وهي تحدق في أمواج البحر المتلاطمة..
ترقرقت عينيها بالدموع، وشهقت دون مقاومة، فسيل ذكرياتهما وضحكاتهما العذبة زاد من الأمر سوءاً وحطم فؤداها أكثر..
أغمضت عينيها لتمنع عبراتها من الإنهمار..
لكن هواء البحر المرطب لم يكن في صفها، وساعد في ذرفها للعبرات المريرة…
ابتلت وجنتيها بغزارة، ورددت مع نفسها بحسرة:
(( شَكَوتُ لموجِ البَحرِ أَحزَاني
لَعَله يَذهب إِليك، وُيُبلِغ عَنِي أشوَاقِي
فَتَعود مُسرعاً لأحضَاني وملبياً لِندَائي..
ولكني بِتُ وَحِيدة، وَ أسِيرَة آمَالِي، ))
إيثار!
قالها مالك بنبرة مصدومة، ففتحت هي عينيها فجأة، وأدارت رأسها في إتجاهه لتحدق فيه بعدم تصديق
ظهر شبح ابتسامة خفيفة على ثغرها وهي تراه أمامها..
رمشت بعينيها عدة مرات، وهي تهمس له بصوت مختنق:
مالك
صدمت أكثر حينما باغتها بسؤالها بنبرة أقرب للقسوة وقد تحولت نظراته للإظلام:
ايه اللي جايبك هنا؟
اضطرب جسدها، ودبت في أوصالها قشعريرة قوية، وإرتبكت وهي تحاول إجابته:.
أنا، أنا
قاطعها بصوتٍ قاسٍ:
معندكيش طبعاً اللي تقوليه!
ابتلعت ريقها، وتوسله برجاء:
مالك، أرجوك اسمعني! اللي حصل كان غصب عني وآآ..
قاطعها بنبرة صارمة:
متقوليش حاجة
أضافت قائلة بإصرار وقد زاد لمعان عينيها:
إنت، إنت مش عارف عمرو كان ممكن يعمل فيك ايه لو مكونتش وافقت على الجواز من محسن!
صاح فيها بغضب مخيف:
اخرسي ماتنطقيش اسمه قدامي
جفلت إيثار من صراخه، وإرتعشت من نظراته القاتمة، فهتفت بتلعثم:.
م، مقصدش، بس والله خوفت عليك منه، صدقني!
التوى ثغره بإبتسامة متهكمة وهو يردد:
بجد خوفتي عليا، لأ حقيقي إنتي ممثلة هايلة، عاوزة تعيشي على طول في دور الضحية، والباقي كله ظالم ومفتري!
شعرت بوخز قوي في صدرها من عباراته اللاذعة، وزاغت أبصارها وهي تتابع حديثه المرير:
أنا كنت مستعد أعمل أي حاجة عشانك، بس الظاهر كلام الناس عنك صح
سألته بهلع وقد تجمدت أنظارها عليه:
تقصد ايه؟
رد عليه بسخط وهو يرمقها بنظرات مهينة من رأسها لأخمص قدميها:
انتي بتبيعي نفسك للي يدفع أكتر ومش مهم عنك تكسري قلب مين!
وضعت إيثار يدها على صدرها، وكورتها في غضب، وهزت رأسها مستنكرة ما يقوله، وصاحت بنبرة مرتبكة:
انت غلطان، أنا مش كده
أضاف قائلاً بحنق:
أنا كنت غبي وعبيط وصدقتك
إنهمرت عبراتها قهراً، وهتفت محتجة:
حرام عليك، إنت مش عارف حاجة
اقترب منها خطوة، فرأت في عينيه قساوة غريبة..
نعم لقد تبدلت نظراته الحانية الشغوفة إلى نظرات حانقة مميتة..
انتفضت فزعة في مكانها على صوته وهو يقول بنبرة آلمتها للغاية:
ومش عاوز أعرف، بس هاقولك حاجة أخيرة، على أد ما أنا حبيتك على أد ما أنا كرهتك!
ارتجفت شفتيها وهي تهمس بإسمه:
م، مالك
صرخ فيها بصوت هادر أرعبها:
ماتقوليش اسمي، سامعة!
نكست رأسها بحزن، وأغمضت عينيها بقوة..
تابع هو قائلاً بإهانة وهو يرمقها بنظرات إزدراء:.
إنتي أرخص من إني أزعل عشانك، أو أضيع مستقبلي وحياتي على واحدة زيك
ضمت يديها إلى صدرها، وبكت بأنين خفيض وهي تستمع إلى عتابه القاسي..
هي لم تفعل ما يستحق هذا
هي حاربت من أجله لوحدها..
ولكنها لم تستطع الصمود أمام بطش عائلتها..
أكمل قائلاً بنبرة جافة تحمل الشراسة:
عارفة! أنا هنساكي، أيوه هادوس على قلبي، وهأمحيكي من حياتي، إنتي هاتكوني مجرد ماضي أليم هتنسى مع الزمن!
شهقت إيثار بصوت مسموع، وزادت خنقتها..
شعرت بأن الدنيا قد أظلمت من حولها..
أنها خسرت كل شيء في لحظة
إحساسها، قلبها، مشاعرها، حبها، قلبها، واخيراً حريتها..
لكن لم يكف مالك عن توبيخها بكل قسوة لديه، فأضاف بصوت قاتم أخير:
إنتي هاتبقي مش اكتر من واحدة عرفتها ونسيتها!
ثم رمقها بنظرات أخيرة احتقارية قبل أن يتركها وينصرف لتنهار في مكانها باكية على رحيل أخر ما تبقى من حبها، للأبد…!